المجتمع الأمريكي منقسم، هذا أمر مؤكد، لكن حدة هذا الانقسام وعنفه يبدوان أكثر خطراً مما يتصوره البعض، أحد الأطراف يرى الآخر ممثلاً للشيطان، كما وصف أنصار دونالد ترامب المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس بأنها «المسيخة الدجالة» في أحد المؤتمرات الانتخابية.
على الجانب الآخر يرى نصف المجتمع الآخر ترامب رجلاً مجنوناً، عنصرياً، مؤمناً بتفوق الجنس الأبيض وجاهزاً لتحريك الجيش والحرس الوطني لسحق معارضيه والقضاء على ملايين البشر الذين يصفهم بأنهم «العدو في الداخل».
يبدو المجتمع الأمريكي على حافة حرب أهلية أكثر من أي وقت مضى، وهكذا يظهر فيلم «civil war - حرب أهلية» مجدداً من إخراج البريطاني «أليكس جارلاند» الذي عُرض للمرة الأولى خلال مارس هذا العام.
حينما تقرأ هذا المقال عزيزي القارئ، سيكون ربما ترامب رئيساً لأمريكا مرة أخرى، أو ربما ستنجح كامالا هاريس في الوصول لكرسي الرئاسة، لكن الأكيد في الحالتين أن المجتمع الأمريكي سيظل مشتعلاً خلال الأسابيع المقبلة، أياً كانت النتيجة.
كيف يمكن أن يشارك الواقع في سرد حكاية سينمائية؟ وكيف تصبح الكاميرا شاهداً على فقدان الأمل في قيمة الصحافة، الصورة، والفن؟
في فيلم «حرب أهلية» لا يتوقف جارلاند كثيراً عن أسباب بداية الحرب، يبدأ الرجل الذي اشتهر من خلال أفلام خيال علمي ديستوبية على شاكلة «ex Machina» و«annihilation» بمشهد نرى من خلاله الرئيس الأمريكي وهو يراجع بعض الجمل التي سيلقيها في خطاب حربي، نستدعي كمشاهدين بشكل ربما غير واع عديداً من خطابات الرؤساء الأمريكيين الحربية، ربما أولهم جورج بوش الابن، صاحب الخطابات الشهيرة خلال حربي العراق وأفغانستان، لكن حتى لو عدنا عشرات السنين إلى الوراء سنجد أن خطابات نيكسون خلال حرب ڤيتنام أو حتى ترومان خلال مأساة هيروشيما وناجازاكي لم تكن مختلفة كثيراً، في كل الأحوال رجل أبيض، ممتلئ الجسم بعض الشيء، صاحب شعر أبيض أو رمادي، يتحدث بثقة شديدة، بحس وطني أمريكي ممتلئ بالفخر، يهدد أعداءه بسحقهم. لكن العدو هنا مختلف هذه المرة، العدو هنا هم أمريكيون أيضاً.
يترك جارلاند هكذا الفراغات لجمهور الفيلم ليملأها، وينتقل بشكل سريع لنواة الحكاية التي يريد أن يرويها، لا فائدة من التحذير بأن الحرب ستحدث، السؤال يتحول لاتجاه آخر، هل ما نفعله بتوثيق الحروب قد يمنع البشرية فعلاً من بدء حروب أخرى؟
نواة هذا الفيلم هي العلاقة بين مصورة مراهقة هي جيسي، تقوم بدورها كالي سباني، ومصورة حربية شهيرة هي لي، كريستين دانسيت، نتتبع هنا علاقة سينمائية اعتدنا عليها، علاقة المدرب والمتدرب، المريد والأب الروحي، تبدأ العلاقة دائماً ببعض المشاعر المختلطة، يقع المتدرب أو المريد كالعادة في خطأ فادح، وتنتهى الحكاية دائماً والمريد بالقرب من أبيه الروحي أو ربما ينتزع مكانته، هكذا تصبح هذه العلاقة السينمائية المعتاد عليها وسيلة لنرى رحلة شخصية جيسي، وهي هنا الرحلة التي يتطور من خلالها الفيلم.
تبدأ جيسي الحكاية مراهقة خائفة في الكرسي الخلفي لسيارة تجمع صحفيين ومصورين حربيين لديهم كثير من الخبرة، يبدو «سامي» الذي يقوم بدوره «ستيفن ماكنلي هندرسون» وكأنه دمبلدور في هذه الصحبة، رجل عجوز خبير، يشتم الخطر من بعيد، ولا يتردد في التضحية بما بقي من حياته من أجل تلاميذه وتلاميذ تلاميذه.
يستمر تحور شخصية جيسي مع كل فصل من الفيلم، كل توقف في رحلة المصورين إلى العاصمة واشنطن، هناك حيث ينتظرون أن تنتهي الحرب عند البيت الأبيض، وعندها يصلون، أو من بقي منهم، إلى هناك، تبدو جيسي وكأنها شخص آخر غير الذي بدأ الرحلة، تحول يبدو سريعاً للغاية، لكن ربما هذا هو تأثير الرصاص والدماء والموت.
يمكن رؤية فيلم «حرب أهلية» فيلماً يدور بشكل مكتمل عن قيمة الكاميرا، يستغل أليكس جارلاند هذا حتى من خلال لغة الفيلم البصرية، تتوقف تتابعات الفيلم في كل مشهد يلتقط فيه أحد أبطال الحكاية صورة، تتغير الألوان على الشاشة، تتجمد الصورة لأجزاء من الثانية ثم يستمر الفيلم، تحاول الكاميرا من خلال ذلك أن تحفظ لحظة من الزمن، في أحد أهم مشاهد الفيلم تخبر لي المصورة الخبيرة جيسي المصورة المراهقة التي تتبعها أنها كمصورة لا يجب أن تطرح أي أسئلة، مهنتهم أن يلتقطوا الصور من أجل أن يطرح آخرون الأسئلة حينما يشاهدونها.
في مشهد مهم آخر تجد المصورتان أنفسهما أمام قاتل سيكوباتي يتلذذ بتعذيب سجنائه، حينها تطلب منه لي وفقط أن تلتقط صورة له رفقتهم، تبدو في هذا المشهد وكأنها تستخدم الكاميرا كبندقية، كسلاح تقتص من خلاله من المجرم وتحقق العدالة.
لكن السؤال عن قيمة الكاميرا هنا لا تتم الإجابة عنه بشكل متفائل، ولكن بكثير من الشك، على رغم كل الفظائع التي التقطتها كاميرات أبطال الفيلم يستمر القتل، ويستمر القتلة دون حساب، بل يحتفلون حتى في الصور التي يتم التقاطها لهم، يبدو هكذا أنهم متأكدون أنه لن تتم محاسبتهم.
تماماً كما استخدم «جارلاند» الواقع في ملء فراغات الحكاية لدى مشاهديه، لا نستطيع كمشاهدين أن نمنع أنفسنا عقب نهاية الفيلم من مد الخط على استقامته، خصوصاً مع كل الصور التي رأيناها من حرب غزة، يستمر القتل، ويستمر القتلة في الاحتفال، يستمر هكذا الشك في قيمة الكاميرا وفي ما تحفظه الصورة.
تصبح هذه هي رسالة الفيلم الرئيسة، وليس فقط التحذير من حرب أهلية أمريكية تبدو أقرب من أي وقت مضى.
# سينما # السينما الأمريكية # دونالد ترامب # كامالا هاريس # الولايات المتحدة الأمريكية